فقير أنا : أعترف بذلك ..فقير إلى الحد الذي أوشك معه أن أتضور جوعا ..،رث الهيئة ،مكتبي للمحاماة لا يطرقه إلا مأمورو الضرائب وغالبا ما أجد أحدهم قد رق لحالي وترك خلسة ورقة مالية لطيفة بجوار الكرسي المتهالك حينما يرى على وجهي ملامح سوء التغذية وفي عيني تلك النظرة الجائعة السرمدية التي أجيدها.
لكني برغم ذلك عبقري والدليل هو ما يلي:
- -- ----
في البدء دلف إلى المكتب شاب أنيق فأشرت له بالجلوس.
جلس مترددا على حافة المقعد الخشبي ذي الأرجل المتآكلة ..ودعوت الله في سري ألا ينهار به فأخسر زبونا بهذه السرعة ..وتأملته مليا فبدا لي رجلا يناهز الثلاثين يرتدي ملابس أنيقة ويبدو عليه اليسار بشكل لافت للنظر.
شرع يجول بنظره في أرجاء المكتب المتواضع -جدا-الذي لم يكن يشتمل سوى على مكتب معدني قديم (كنت أستذكر دروسي عليه في المرحلة الثانوية ) ومقعدين خشبيين وكرسي مطبخ
غمغم في دهشة :أحقا أنت محامي .؟
هتفت في ثقة
-أجل
همس في تردد
-يجوز
كان جليا أنه يتأهب للتراجع ومن ثم فقد بادرت أخاطبه بصوت عريض:
-اسمع ..أنت في افضل مكتب للمحاماة في المدينة ..كل ما هنالك أنني أقوم ببعض التجديدات .. والآن دعك من الهذر واخبرني ما هي المعضلة؟
وتحدث….
كان حديثا أشبه بالهذيان والحق يقال والدليل هو :
-إنني مهدد بالقتل يا رجل..رامز أخي قد عقد النية على قتلي.
-وما الذي يدفعه لذلك؟
-الانتقام .يخال أني قتلته.
-يخال أنك حاولت قتله ؟
-لقد مات لكني لم أتعمد إيذاءه.
-معنى هذا .. إحم ..فلنقل أن شبحه قد عاد يبغي الانتقام .
-انه هو بذاته وليس شبحه .
-إنه ميت وبرغم هذا يبغي قتلك .
- أصبت.
لست بحاجة إلى ذكاء خارق لأعلم أن ذلك الرجل ليس بحاجة إليُ وإنما إلى طبيب نفسي (هكذا خاطبت نفسي وكلي حسرة علي الأتعاب الطائرة).
-وماذا تريد مني ؟
-إقناعه بأني لم أتعمد قتله.
ابتسمت في هزيمة ..فقال لي في صوت حنون:
-اسمع ..يبدو أن الأمر فد اختلط عليك ..سأبدأ من جديد.
-أكون شاكرا لو فعلت.
قال وهو يشعل سيجارة فاخرة
-الواقع أننا نقيم في كندا منذ سنوات طويلة..هاجر والدانا ونحن لم نزل أطفالا .وانشأ أبى تجاره رابحه هناك ..ومضى الأمر على ما يرام بيني وبين أخي حتى أحببت سوزي.
-سوزي ؟
-في الحقيقة أوشكت أن اطلب يدها حين أفسد رامز كل شيء.
-كيف؟
-شرع يلاحقها ويتودد إليها حتى أغرمت به وتزوجته.
-وبعد؟
-مضينا إلى سويسرا للتزلج بمناسبة أعياد الميلاد، وهناك داهمتنا الكارثة.
-الكارثة؟
-كنا نتزلج سويا حينما أشرفت على هوة.. لا أدري ماذا حدث ولكني ارتطمت به على غير قصد مني فهوى من الجبل .
-مات؟
-لقد صار أشلاء ..لم أتعمد قتله بالطبع ولكنه يعتقد ذلك .
-من؟
-رامز ..جاءني في ذات المساء وكان غاضبا بشدة ..لقد اعتقد أنني تعمدت قتله من اجل سوزي.
حككت رأسي وقد خاب أملى ..كان الأمر يبدو منطقيا حتى عدنا إلى تلك الحلقة المفرغة .
-سوزي؟
-الحقيقة أنني تزوجتها (قالها في ارتباك).
-تزوجت سوزي؟ (قلتها معاتبا)
-فلنقل أن هذا عمل غير أخلاقي :أن أتزوج امرأة أخي الذي تسببت في قتله ..ولكن لا تنس الحقيقة التالية :لقد أحببتها أولا ولم أزل مغرما بها حتى الآن.
-وبعد؟
-أريد منك أن تتولى إقناعه.
-إقناع من؟.
-رامز.
-رامز الذي تمزقت أشلاؤه .
-بأنني لم أتعمد إيذاءه.
تهدج صوتي بالرغم مني
-وأين هو؟.
-سيمر عليك غدا.
ونهض قائما ومضي يعبث في حافظته حتى اخرج ورقه خضراء..
-مائه دولار ..تحت الحساب.
مائه دولار ؟ مائة دولار؟
هتفت في انفعال شديد:
-سأتولى إقناعه .ثق في ذلك ..وسأقنع كل أشباح الكون لو شئت ..ولكني لا اعلم اسمك حتى الآن.
قال في كبرياء :
-فيليب
…………….
فى الصباح التالي بدا الأمر لي كحلم يصعب تصديقه لولا تلك الورقة الخضراء الحبيبة التي أسعدت مسائي.
وما لبث أن طرق أحدهم الباب ..فهل خمنتم من هو؟ -
-رامز
جلس على ذات المقعد الخشبي الذي طفق ينوح بصوت مرتفع (ذكروني وقد صرت من الأثرياء أن أبتاع مقعدا جديدا )
خاطبته في رقة
-تشرفت أمس باستقبال أخيك.
-ماذا تريد؟
انعقد لساني وقد خشيت إن صارحته بفحوى حديث أخيه أن تساوره بعقلي الظنون.
قلت في ارتباك:
-أخشى أن الأمر يصعب تصديقه.
-افصح عن مرادك.
-يزعم انه قتلك ..احم ..اعني حاول قتلك.
-وبعد؟ (قالها في برود واضح )
-يريد أن أتولى إقناعك(ماذا أقول؟) أنه لم يقصد قتلك حينما قتلك.
-كاذب .. آخي كاذب كدأبه.
قلت مناشدا :
-أرجو أن تصارحني بالحقيقة لأنني أوشكت على الجنون.
-الحقيقة المؤسفة أنه قتلني عمدا.. دفعني بكلتي يديه في الهوة.
-ولكنك نجوت من الحادث بأعجوبة.. أليس كذلك؟ (قلت في أمل )
هز رأسه عده مرات في بطء وقال
-كلا يا سيدي لقد قتلني تماما.
تأوهت بصوت مرتفع فأردف الرجل في غضب
-ثم تزوج امرأتي .. النذل.
مد يدا واثقة (وكيف لا وهي تحوي هذه الورقة الفاتنة الخضراء؟)
مائة دولار ..مائة دولار.
قال لي وهو يرمقني في صرامة
-هذه الأمور تسوي بين الأشقاء كما تعلم ..وأنا لا احب كثيرا من يتدخل في أمور الأشقاء.
قلت له في انفعال حقيقي
-وأنا لا أمقت شيئا قدر التدخل في شئون الأشقاء.
…
هل تخمنون من الذي زارني في اليوم التالي؟
الأم ..سيدة تناهز الخمسين من عمرها ذات خصلات بيضاء ووجه حزين.بالطبع نسيت مسألة المقعد إياه حتى جلست عليه تلك السيدة الأرستقراطية العتيدة ..راح يتراقص حتى خلت أنه أرجوحة …ويبدو أنها لم تلق بالا إذ انخرطت فجأة في بكاء مرير .
-لكم اشعر بالبؤس؟ ..أنت تدري كل شيء ..أليس كذلك؟
-ولكني لم افهم الكثير.
- لقد داهمهما ذلك المرض النفسي اللعين..لا أفهم مصطلحات الأطباء إياها ولا تعنيني …كل ما أفهمه أنني فقدت ولدي الحبيبين رامز وفيليب إلى الأبد.
-أناشدك مزيدا من الإيضاح.
-إنه مرض عقلي لعين أدى إلى أو هام ضلالية جعلت فيليب يخال أنه قتل رامز أخيه ..والعجيب أنه اقنع أخاه بذلك ، ومن يومها والحكاية واحدة:يهرع فيليب إلى أحد رجال الشرطة السرية في كندا ويردد هذا الهراء ثم يشرع في الشجار مع أخيه وينتهي الأمر إلى الشرطة بدعوى الشغب ومنها إلى الطبيب النفسي الذي يحتجزهم قليلا ثم يطلق سراحهما ..وهكذا ..وهكذا
-وسوزى؟
ابتسمت في حزن
-لا وجود لسوزى تلك ..إنها محض وهم.
-عجيب.
-صار الجميع يعرفون الحكاية ..جميع مكاتب البوليس السري ورجال الشرطة والأطباء النفسيين هناك.
-حقا؟
-الحقيقة أنهم هناك في كندا شديدو الحدب ..إن المريض العقلي هناك يلقى كل معونة وعطف.
-وفيم كانت العودة إلى مصر؟
-كان لدى بصيص من الأمل أن زيارة ملاعب الصبا ولقاء الأصدقاء القدامى في عطلة قصيرة ربما تجديان ،ولكني كنت مخطئة والدليل هو ما رأيته بعينيك ..أليس كذلك؟
-أخشى أن أقول :بلي
-لم يعد هنالك مفر من العودة إلى كندا قبل أن يتشاجرا كالعادة وينتهي الأمر إلى الشرطة.. لقد أثقلنا عليك كثيرا وأضعنا وقتك الثمين فأرجو المعذرة.
وعبثت قليلا في حقيبتها الأنيقة فأخرجت ما اشتهي :الورقة الفاتنة اللطيفة .
مائة دولار..مائة دولار.
هتفت في حماسة
-أنت سيدة فاضلة وسيشفى ولداك بإذن الله ..أعدك بذلك.
همست في حيره:
-ولكن أنى؟
قلت لها وقد هبط علي الهام مفاجئ
-سيدتي ..لقد خطرت لي فكرة نيرة .
فكففت دموعها ورمقتني في أمل.
- سيدتي دعي الأمر .يمضي في مجراه المألوف
قالت في دهشة
-سيتشاجران ..ويمضيان إلى الشرطة .
-هذا هو عين ما أرجوه.
همست في حيرة
-لا افهم.
قلت في ثقة مفرطة
-إن مرض ولديك الحقيقي هو الرفاهية ..ويقينا إن المعاملة الجيدة هناك في كندا قد أضرت اكثر مما أفادت ..إن المريض العقلي في مصر له مفهوم واحد:إنه ذلك المخبول الذي يسيل لعابه ويمشي بالملابس الداخلية ممسكا بفرع شجرة… والمعاملة التي يلقاها هنا في مصر جد مختلفة.. جد عسيرة..لقد آن الأوان لولديك أن يتعرفا على حقائق جديدة لم تخطر لهما ببال.
…….
تطور الأمر سريعا إلى مشاجرة لا بأس بها بين فيليب ورامز انتهت إلى الشرطة.وهناك في قسم الشرطة استمع الشرطي إلى ذلك الهراء الذي تعرفونه ..هناك في تلك الغرفة الضيقة عديمة التهوية حيث اكتظت بثلة من البلطجية أمثال حسن فورمايكا وسعد كاراتيه وسيد طبنجة اثر مشاجرة بالأمواس والسنج والجنازير.لم يكن الشرطي قد تناول إفطاره بعد (كانت الساعة تناهز السابعة مساء)، شرع الشرطي يصغي في غضب إلى حكاية فيليب الذي ارتطم دون قصد برامز إثناء التزلج على جبال سويسرا (؟)، وكيف انه تزوج من سوزى فعاد لينتقم منه بعد إن قضى نحبه.
كان الأمر مستفزا إلى الحد الذي يصعب على الشرطي المنهك احتماله .وقد كان لعيونهم الخضراء وهيئة اليسار البادية عليهما أسوأ الأثر في نفسه ومن ثم فإن له بعض العذر فيما حدث. لقد شرع يسبهما سبابا لا عهد لهما به بحاسة لغوية مرهفة ترقى بالنثر إلى الشعر وبالشعر إلى الإلهام ..يقينا كان ذلك الشرطي يملك ناصية لغته إلى الحد الذي كان رهين المحبسين أبو العلاء المعري صاحب اللزوميات سينزل له عن ردائه توقيرا ودهشة . وتلا ذلك الضرب ..الضرب المبرح في الوجه والبطن .وانتهى الحفل بمشاركة حسن فورمايكا وسعد كاراتيه وسيد طبنجة في الوليمة مجاملة منهم لحضرة الشاويش.
وحينما غادرا المكان دون أن يفهما ما حدث .ممزقي الملابس .تتناثر الكدمات على وجهيهما .تسيل الدماء من أنفيهما .يتعثران ويلهثان .كانا قد شفيا إلى الأبد من كافة الأوهام حتى أن أحدهما لم يعد يذكر أسم سوزي على الإطلاق.
سوزي من؟ هل سمعتم عن أسم كهذا؟